لخولة اطلال قراءة في معلقة طرفة بن العبد ج 2

 

لخولة اطلال  قراءة في معلقة طرفة بن العبد 2



 بقلم  احمد البنا 


لحظة الوجدان الشعري لحظة اندماج مع الشعور واطلاق العنان للبوح بكل الخفايا وإخراجها افراغا لما يتراكم منها في النفس من اسرار واحاسيس حان آن أون اطلاقها لإراحة النفس ، و ليس صحيحا أنها مرحلة لا وعي بل  هي أوعى من الوعي ذاته مكاشفة مع الذات ، وهي مرحلة لا يبلغها الا ذوي النفوس السامية التي لا تخشي ان تبوح بقدر ما يقتلها التحفظ والكتمان ،

ما بالك ان تكون تلك النفس مقبلة على الموت ، و هي من قررت النهاية بحمض ارادتها ، واقتنعت ان تغادر هذه الحياة .. هذا العالم لا خير يرتجى من البقاء فيه ، ولكن عليها ان تتنقى وتخفف من كل ما كتمته من خبايا اثقلتها  وهي تغادر عليها ان تراح من ثقلها لتنطلق خفيفة إلى عالم آخر ... هذا هو طرفة وهذه هي نفسه ، وفي الابيات والموضوعات التالية ما ثبت هذا التوصيف للحالة النفسية والانسانية التى بلغت ببطلنا طرفة بن العبد ،


ذكرت في الجزء الاول من القراءة بعض الموضوعات والاغراض التي تناولتها المعلقة ،، وحددناها ، بالوقوف على الاطلال ، والتغزل في المحبوبة ، ثم وصف الناقة ، وسنكمل القراءة على هذا النحو ؛ 


ذكر الذات :

 ما يعلمه عن نفسه ومكانته لدى قومه ،


   إِذَا القَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتَىً خِلْتُ أنَّنِـي

         عُنِيْـتُ   فَلَمْ   أَكْسَـلْ   وَلم اتبلد ِ

  فَإن تَبغِنـي فِي حَلْقَةِ القَوْمِ تَلْقني

        وإن تطلبني في الحوانيت تصطتد ِ

  وَإِنْ يَلْتَـقِ الحَيُّ الجَمِيْـعُ تُلاَقِنِـي

         إِلَى ذِرْوَةِ البَيْتِ الشَّرِيْفِ المُصَمَّـدِ

  نَـدَامَايَ بِيْضٌ كَالنُّجُـومِ وَقَيْنَـةٌ

        تَرُوحُ  عَلَينَـا   بَيْـنَ  بُرْدٍ  وَمُجْسَـدِ


اذا احتاج القوم لفتى فانا المعني بالامر ، لا اتكاسل او يتبلد ذهني ، وانا الموجود في كل مكان لي مكانتي في صدر مجالس القوم  او في الحانات في كل الاجتماعات وفي قصر الملك ، لكني لي وقتي الخاص الهو واروح عن نفسي ، انادم الجميلات والقيان ، 

صور بين المقابلة والطباق والجناس ، الكسل والتلبد ، حلقات القوم والحانات ، تصوير دقيق لوضع الشاعر في المجتمع 


   وَمَـا زَالَ تَشْرَابِي الخُمُورَ وَلَذَّتِـي

        وبَيْعِـي وإِنْفَاقِي طَرِيْفِي ومُتْلَـدِي

   إِلَـى أنْ تَحَامَتْنِي العَشِيْرَةُ كُلُّهَـا

        وأُفْـرِدْتُ  إِفْـرَادَ  البَعِيْـرِ  المُعَبَّـدِ


 فقدت قدري واحترامي لدي القوم باسرافي في الشراب واللذة وانفاق المال فنبذت كالبعير الاجرب ، اعتراف ضمني بانه من جنى على نفسه ، وانما عدم الانكار يدل وصوله الى القناعة بانه حر في حياته ولم يخطئ بحق احد،  

الصور طريفي ومتلدي ، بيعي وانفاقي ، وكذلك تحامتني العشيرة ، والتشبيه بالبعير المعزول ،


   رَأَيْـتُ بَنِـي غَبْرَاءَ لاَ يُنْكِرُونَنِـي

       وَلاَ أَهْـلُ  هَذَاكَ  الطِّرَافِ   المُمَــدَّدِ


عندما همت في البراري والصحراء استأنست الوحوش فهم لا يتنكرون لي كما البشر ، بني غبراء واهل ذاك الطراف الممدد ، استعارة مكنية ، للصحراء ابناء وقوم يمتدون على طولها،

 


   أَلاَ أَيُّها  اللائِمي  أَشهَـد ُ  الوَغَـى

       وَأَنْ أَنْهَل  اللَّذَّاتِ  هَلْ  أَنْتَ مُخْلِـدِي

   فـإنْ كُنْتَ لاَ تَسْطِيْـعُ دَفْعَ مَنِيَّتِـي

        فَدَعْنِـي   أُبَادِرُهَا   بِمَا   مَلَكَتْ  يَـدِي

   وَلَـوْلاَ ثَلاثٌ هُنَّ مِنْ عَيْشَةِ الفَتَـى

        وَجَـدِّكَ  لَمْ  أَحْفِلْ مَتَى  قَامَ  عُـوَّدِي

   فَمِنْهُـنَّ سَبْقِـي العَاذِلات ِ بِشَرْبَـةٍ

        كُمَيْـتٍ  مَتَى  مَا تُعْلَ   بِالمَاءِ  تُزْبِــدِ


انا شخصا لا اهاب الحرب والمنية فكيف تعذلني على طلب اللذات ، اذا كنت لا تستطع رد الموت عني فدعني اشرب واتمتع واسابق الاجل ، فلولا ثللثة اشياء ماكنت اهتم بالموت ، اولهن استباقي العاذلات بشربة لكي انسى ولا يؤثر في كلامهن ،

في هذه الابيات فلسفة الحياة في انتظار الموت حيث يصبح السكر علاجا للتفكير والاصغاء للعتاب ، هل انت مخلدي ، دعني ابادرها ، متى قام عودي ، متى تعل بالماء تزبدي ، صور بديعية واجابات موجزه ، وكانه في لحظته وذاكرته يعطي سببا ويجيب كل من يعتابه ،


    كَـرِيْمٌ  يُرَوِّي  نَفْسَـهُ فِي  حَيَاتِـهِ

         سَتَعْلَـمُ إِنْ  مُتْنَا غَداً  أَيُّنَا  الصَّـدِي

   أَرَى قَبْـرَ نَحَّـامٍ بَخِيْـلٍ بِمَالِـهِ

          كَقَبْـرِ  غَوِيٍّ  فِي  البَطَالَـةِ مُفْسِـدِ

   تَـرَى جُثْوَنَيْنِ مِن  تُرَابٍ عَلَيْهِمَـا

       صَفَـائِحُ صُم ٌّ مِنْ  صَفِيْحٍ  مُنَضَّــدِ


هوى يرد الان على العواذل ، ان يكون كريم على نفسه ويرويها ، وستعلم عندما نموت من الخاسر مات على ظمأ ، وحتى القبور متساوية ، للنحام البخيل والغوي المسرف ، في الاخير مابين صفائح وتراب ، وهنا ايضا تتابع لفلسفة الحياة والموت ، ونقد البخل ، تعطينا بعدا للتفكير وتنقلنا الى صور الحقيقة ،


   أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ ويَصْطَفِـي

        عَقِيْلَـةَ    مَالِ  الفَاحِـشِ   المُتَشَـدِّدِ

   أَرَى العَيْشَ  كَنْزاً  نَاقِصاً كُلَّ لَيْلَـةٍ

        وَمَا  تَنْقُـصِ  الأيَّامُ   وَالدَّهْرُ  يَنْفَـدِ

    لَعَمْرُكَ إِنَّ المَوتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَـى

        لَكَالطِّـوَلِ  المُرْخَى  و ثِنْيَاهُ  بِاليَـدِ


الموت يغتال الكرام ويترك البخلاء والاثريا ولكن كنز العيش ، العمر والصحة يتناقص كل ليلة ولن يموت احدا قبل انقضاء أجله مهما طال به العمر ستطاله يد الموت وينشب في انيابة ، صور متوالية وغير متكررة في معانيها وافكارها في سرد الحقيقة و فريدة تحمل حكمة وقوة كل صورة بذاتها .


 البوح باسباب الخلاف الحقيقية :

  

    فَمَا لِي أَرَانِي وَابْنَ عَمِّي مَالِكـاً

        مَتَـى أَدْنُ  مِنْهُ  يَنْـأَ  عَنِّي ويَبْعُـدِ

   يَلُـوْمُ وَمَا أَدْرِي عَلامَ يَلُوْمُنِـي

     كَمَا لامَنِي فِي الحَيِّ قُرْطُ بْنُ مَعْبَدِ

   وأَيْأَسَنِـي مِنْ كُـلِّ خَيْرٍ طَلَبْتُـهُ

      كَـأَنَّا  وَضَعْنَاهُ  إِلَى  رَمْسِ  مُلْحَـدِ

   عَلَى غَيْـرِ شَيْءٍ قُلْتُهُ غَيْرَ أَنَّنِـي

      نَشَدْتُ فَلَمْ  أَغْفِلْ حَمَوْلَةَ  مَعْبَـدِ

   وَقَـرَّبْتُ بِالقُرْبَـى وجَدِّكَ إِنَّنِـي

      مَتَـى  يَكُ  أمْرٌ   للنَّكِيْثـَةِ  أَشْهَـدِ

   وإِنْ أُدْعَ للْجُلَّى أَكُنْ مِنْ حُمَاتِهَـا

     وإِنْ يِأْتِكَ الأَعْدَاءُ  بِالجَهْدِ  أَجْهَـدِ

  وَإِنْ يِقْذِفُوا بِالقَذْعِ عِرْضَكَ أَسْقِهِمْ

     بِكَأسِ حِيَاضِ المَوْتِ قَبْلَ التَّهَـدُّدِ

 فَلَوْ كَانَ مَوْلايَ إِمْرَأً هُوَ غَيْـرَهُ

    لَفَـرَّجَ  كَرْبِي  أَوْ  لأَنْظَرَنِي  غَـدِي

   وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً

   عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ


لنتوقف عند هذه الابيات ، كما وعدت سابقا بان تلك الروايات عن قصة طرفة بن العبد ناقصة وانا في المعلقة ما يكشف الغموض ، كان مقربا ونديم الملك ولكنه برغم القرابة كابناء عمومة وجد تعال واجحاف بحقه كونه فقير ونشأ يتيما ، ولكن نفسه ابت عليه هذا الوضع ، وهناك طلبا كان لديه ربما الزواج من اخت الملك ، ولكن الملك المغرور بجاهه تنكر للقرابة وكذلك صهره الاخر زوج اخته المقرب من الملك عمرو بن بشر وجد تثاقل من ناحيته لإقصاءه نظرا لضعف حالته وقلة ثراءه ، فاختار حياة الخمر واللذة لينسى ولكن ذلك ايضا كان حجة في ازدرائه ونبذه فهذا الملك لا يقبل قرب ابن عمه ولا عربدته ليؤثر على مكانته ، هكذا صارت العلاقة واعطت الذريعة للنبذ ، وحتى ما شيع عن تغزل طرفة باخت الملك وشاية وكذب ، ولكن ربما في لحظة سكر ايضا تغزل بها وهجا عمر بن هند الملك ، وتحول بعد ذلك الى متمردا ، اثار هواجس الملك بتشكيله خطورة لما يحمل من سمات تؤهله للتهديد اهمها انه ابن عم الملك وله تهديد ، ولذلك كانت هذه الابيات والابيات السابقة كفيلة بحل اللغز واظهار الحقيقة ، والحقيقة ان طرفة تعرض للظلم والهضم من الاقارب الذين كان يفديهم بروحه ويتفانى في سبيلهم ويعتبرهم سنده ، وذلك الاجحاف في حقه كان سببا كافيا لرفضه ولم يكن يتوقع ان يصل بهم الامر الى التامر عليه وقتله ، فاختار مواجهة مصيره وتقبل هذه النهاية ولو لم يكن من شعره سوى هذا البيت ،لكان كافيا ليخلد اسمه وقصته وذكره ، ويكون سببا وجيها للموت ليوصل رسالته لكل  الانساب والارحام وللانسانية قاطبة ،


وظلم ذوي القربى اشد مضاضة 

   على المرء من وقع الحسام المهندِ


اكتفي بهذا وبالابيات التى اخترتها من بقية المعلقة واترك للقارئ ينظرها بتمعن ويدرك لماذا يسمى الشعر ديوان العرب ،


  فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بنَ خَالِدٍ

           وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْروَ بنَ مَرْثَدِ

   فَأَصْبَحْتُ  ذَا مَالٍ  كَثِيْرٍ  وَزَارَنِـي

            بَنُـونَ   كِـرَامٌ     سَـادَةٌ     لِمُسَـوَّدِ


    أَنَا الرَّجُلُ الضَّرْبُ الَّذِي تَعْرِفُونَـهُ

           خَشَـاشٌ  كَـرَأْسِ  الحَيَّةِ  المُتَوَقِّـدِ

    فَـآلَيْتُ لا يَنْفَكُّ كَشْحِي بِطَانَـةً

           لِعَضْـبِ  رَقِيْقِ   الشَّفْرَتَيْنِ    مُهَنَّـدِ

    حُسَـامٍ إِذَا مَا قُمْتُ مُنْتَصِراً بِـهِ

           كَفَى العَوْدَ مِنْهُ البَدْءُ لَيْسَ بِمِعْضَدِ

    أَخِـي ثِقَةٍ لا يَنْثَنِي عَنْ ضَرِيْبَـةٍ

           إِذَا  قِيْلَ  مَهْلاً  قَالَ  حَاجِزُهُ  قَـدِي

     إِذَا ابْتَدَرَ القَوْمُ السِّلاحَ وجَدْتَنِـي

           مَنِيْعـاً   إِذَا    بَلَّتْ   بِقَائِمَـهِ   يَـدِي


      فَإِنْ مُـتُّ  فَانْعِيْنِـي  بِمَا أَنَا أَهْلُـهُ

          وشُقِّـي عَلَيَّ  الجَيْبَ  يَا ابْنَةَ مَعْبَـدِ


        لَعَمْـرُكَ مَا أَمْـرِي عَلَـيَّ بُغُمَّـةٍ

             نَهَـارِي  ولا  لَيْلِـي  عَلَيَّ   بِسرمدِ


      سَتُبْدِي لَكَ الأيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِـلاً

             ويَأْتِيْـكَ  بِالأَخْبَـارِ  مَنْ  لَمْ تُـزَوِّدِ

      وَيَأْتِيْـكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تَبِعْ لَـهُ

             بَتَـاتاً وَلَمْ تَضْرِبْ لَهُ وَقْتَ مَوْعِـدِ


   نلتقى في معلقة آخرى وقصة آخري

        تحياتي وكل الامنيات الجميلة

إرسال تعليق

0 تعليقات