رواية تلات ورقات د منال الشربيني
الفصل الرابع عشر ١٤
لم أتَمَنْ أن يكون لشيء برواز كما تمنيت للوحة هامان تلك. لو كان له بروازًا لعلقته على ساق شجرة السرو التي تقف عند أول السلم الحجري، ليراه العابرون من وإلى الوادي، فلربما حرك فيهم شيئًا. أو كنت علقته على أحد الأعمدة القريبة من مدخل الجامع، أو الكنيسة أيهما أقرب، فلربما يتذكر القوم فرعون، ولربما فكر نَفَرٌ منهم في الخروج على كل شيء لا يتفق مع كل ما هو إنساني. كان صدري ضيقًا للغاية، وتوقف عقلي تقريبًا عن التفكير، فأطلقت له العنان فاختل توازنه، وعرض الصور تباعًا، الذكريات، المشاهد المؤلمة، الكلمات المؤذية، والوجع كأنما اختل توازن الأحداث فيه فانقلب. أصابني الدوار للحظة، ولما انتبهت إلى الأمر وجدتني في مصر، وتحديدًا مع ليندا، صديقة طفولتي، تلك الطفلة التي لم تكبر بداخلي. لقد افترقنا منذ ثلاثة أعوام أو مايزيد، لكنها تهاتفني من وقت لآخر، ولا أخفيكم سرًا، لا يجدي كلام الهاتف نفعا، خاصة وإنني أحب أن أعيش كل لحظات حياتي "لايف"!
حين زرت ليندا في زيزينيا، كان الغروب يغتال الوقت شيئًا فشيئا. فلما اسود المكان حول بيتها، حوَّلت جلستنا المتصلبة في غرفة الجلوس الكبيرة، إلى غرفتها ذات اللون الوردي الفاتح. كانت منضدة الدرس تكتظ باللوحات الزيتية، وسعف النخيل، العملاق بالنسبة لحجم جسدينا، الأخضر والمجفف بينما وقف الصليب مستندًا بظهره إلى ظهر الأريكة التي أسندت ظهرها إلى الحائط المطل على الفراغ الخلفي لحديقة الجيران الخلفية. حاولت ترتيب الغرفة معها، لكنها أشارت إلي لكي أتوقف، ثم قالت:
هنالك مهمة أكبر من ترتيب الغرفة. أريد تعليق الصليب هنا في منتصف الحائط، عليك أن تراقبيه جيدًا حتى يصبح في المنتصف تمامًا، لا ترتاح عيناي للبراويز المنحرفة، فهي تجعلني أتوتر للغاية، هيا... الآن...ارفعي معي الصليب من هذه الزاوية قليلًا، نعم. هكذا. كفى. اذهبي الآن إلى آخر نقطة في الغرفة، في المنتصف تمامًا، تقدمي خطوتين، نعم هكذا تمامًا، هيا، ساعديني كي أجعله يستقر في المنتصف تمامًا الآن. لو انحرفت يدي قليلًا نبهيني، فقلت مقترحة بعض التعديلات:
- لم لا تعلقينه في الركن الأقصى، ذلك الذي يقابل الباب مباشرة، كي يراه كل من يفتح باب الغرفة، بزاوية 60 درجة مئوية؟ أو في تلك المساحة على يمين الداخل فيكون مصدرًا يمنح القوة للناظر إليه؟ قالت:
- انا لا أعلقه على الحائط لأنه يفتقد مكانًا في قلوبنا نحن المسيحيون، بل أعلقه لأنه يتجول في روحي دومًا، وأنا أريد له أن يستريح قليلًا. لم أفهم شيئًا مما قالته، لكنني قلت في نفسي ربما تقصد أن يستريح عقلها من التفكير بالرب. ربما لم تحسن اختيار العبارات. على كلٍ، علي أنا أن أترجم بما يتفق والمنطق. ولكن كيف يتوقف العقل عن التفكير بالرب؟ منحتني القهوة التي أعدتها هدوءً غير عادي وتركيز عالٍ فأخرجت رأسي من النافذة فرأيت الله. لم يكن الليل الحالك في الخارج سوى صوت الله الذي لم يمنحه لغير "موسى" نعم، كل هذا الصمت في الخارج هو صوت الله الذي به نسمعه في صلواتنا،أولسنا نحدثه طويلًا فنشعر بأيادٍ تضمد أرواحنا وقلوبنا، وتغلف ما انجرح فينا بفعل بعضنا البعض؟ ألم يقل لنا عز من قائل:" وإذا قُرِيَء الْقرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرْحَمُون" من الذي سيرحمنا غيره؟ إنه يحدثنا صمتًا، ويسبغ علينا رحمته صمتًا، ويدبر أمورنا صمتًا، ويسدل الليل صمتًا، ويخرج منه الصبح صمتًا. إنه يعمل في صمت.
استرجعت سؤالًا طرحه عليَّ ابني الصغير حين كنت أعلمه حركات الصلاة جهرها، سرها، وسور القرآن في كل مرة يرفع فيهاالشيخ جعفر الأذان، حين أقول له :
- سينظر الله إلى عباده، ويبحث عنهم في صفوف المصلين، فإن لم يرك بينهم يحزن. فكان يجيبني: من هو ذلك الذي تصرين أن أكلمه دون أن يرد؟ أتذكر أنني قلت له يومها إنه يحب سماع أصواتنا، فإن دعوناه استجاب، فإن استجاب كانت استجابته ترجمة لصمته. إنها لغة تحتاج إلى تفكر وتدبر. لقد منحنا الله إمكانية فك شفرات الكون من حولنا، تلك التي طبعها على عقولنا وقلوبنا منذ أن خلق آدم. إنها موجودة دومًا بدواخلنا، فإن صفت أرواحنا قرأناها وحللنا ألغازها. هكذا يمكننا أن نترجم صمت الله لغةً في كل ما حولنا من وجود. وإلا لماذا يمكن لأحدنا أن يتكلم لهجة الآخرين بسهولة بعد أن يمضي بينهم وقتًا ما؟، إنها الشفرة تعلن عن نفسها إن وجدت من يزيح عنها الستار. أتذكر أن ابني تظاهر بأنه فهم كلامي. فأنا أمه، ولا بد أن كلامي هو الصحيح دومًا. هكذا اعتقد أولادي طوال الوقت. نعم، الآن أدرك أن الصمت هو لغة الله التي يكلمنا به، يرد بها على أسئلتنا، ويحاورنا. ومن منا لم يحاوره الله صمتًا؟ ويحل علينا رضاه ونعمته صمتًا، تحل اللعنات صمتًا، ويأتينا الموت صمتًا. الصمت كلمة الله إلى الخلائق، وعليهم: بها تطوى الصحف، وبها تقوم الساعة. حتى حين يقول الله:" كن فيكون"، يكون الفعل هو الشاهد الوحيد على الصمت، وتكون النتائج هي الترجمة المرئية للصمت. لقد فهمت الآن ما الذي قصدته ليندا حين قالت: أريد أن أعلق الصليب بالقرب مني، كي أسمع صمت الرب بشكل واضح. حين يتكلم الله، يكون للصمت صوتٌ طاغٍ. أقصد حين تستريح روح ليندا. وإلا فكيف ترتاح الأرواح إن لم يتكلم الرب؟!
أتذكر الآن حين كنت أودع ابني الأكبر في المطار قبيل سفره إلى أميركا أن الحمام الذي أخذ يحط، ثم يشيل، ثم يحط في ساحة المطار الأمامية، كان يحدثني بلغة رمزية أيضًا؛ لقد حط ثم شال ثلاث مرات، وفي كل مرة يحط فيها، كان ابني يخرج من قاعة المغادرين فيخبرنا أن أسبابًا ما ستجعل الطائرة تقلع بعد نصف الساعة، وحين شال الحمام في المرة الرابعة، طار ابني، فتنبهت أن الحمام يبلغي رسالة. نعم، إن الصمت ولغة الرمز أشد الأصوات صياحًا. لقد اكتشفت أنني أجيد ترجمة صمت الله وفك رموز الأشياء من حولي. وأعتقد أنني وليندا متفقتان تمامًا حول هذا الأمر. حين فرغنا من تعليق الصليب، رتبنا على الحائط المقابل مكانًا يليق بخريطة العالم. مساكين هم من يفهمون الصليب على نحو خاطيء. الصليب هو المعادل الموضوعي للإنسان الوفي، الفدائي، والشهيد.
نبهتني ليندا أن صيامهم يبدأ في الصباح، فاستحييت أن أطلب منها بعض الحليب الدسم، واندسست تحت الغطاء في السرير المقابل للصليب، كي امنحه بعض الوقت ليستريح.
أيقظني صوت الببغاء، كان يريد الخروج من جو القفص ليطلق العنان لجناحيه في داخل البيت، ففتحت ذراعيي للبراح.
يُتْبَع...
0 تعليقات