شيرين حافظ تكتب...
الكائن البشري
في أعماق الكائن البشري، تسكن قوى متناقضة: القدرة على الهدم، والقدرة على العطاء. ومن بين كلّ الصفات التي يمكن أن يتحلى بها الإنسان، تظلّ الرحمة هي المفارقة الأعظم: كيف لكائنٍ قادر على الإيذاء أن يختار الرفق؟ كيف لعقلٍ يدرك مآلات السلطة أن ينحاز إلى التواضع؟
الرحمة ليست ضعفًا كما يتوهم البعض، بل هي ذروة القوة؛ القوة التي لا تحتاج أن تُثبت نفسها عبر القسوة، بل تبرهن على وجودها عبر العفو، والاحتواء، وإعادة ترميم المكسور. الرحمة هي وعيٌ راقٍ بأن الآخر امتدادٌ لك، وأن الألم حين يمسّه، فإنما يمسك بطريقةٍ ما.
أما الإنسانية، فهي ليست مجرد مصطلح أخلاقي، بل هي رؤية كونية تُعيد ترتيب علاقتنا بكل شيء: بالبشر، بالحيوان، بالأرض، وحتى بالزمن نفسه. أن تكون إنسانيًا لا يعني فقط أن تحسن إلى من تعرف، بل أن تحترم وجود من لا يشبهك، وأن تعترف بأحقية المختلف في الوجود دون أن يُطلب منه التبرير.
الفيلسوف الألماني "شوبنهاور" اعتبر أن الرحمة هي الأساس الوحيد للأخلاق، لأنها تتجاوز العقل والمنطق والمصلحة. فالرحمة حالة شعورية تُلغى فيها الحدود بين "أنا" و"هو"، حيث يتحول الألم من شعور خاص إلى مسؤولية مشتركة. وهنا، تلتقي الإنسانية بالرحمة في نقطةٍ دقيقة: إلغاء الحواجز.
لكن في عالم تتسارع فيه الفردانية، وتُقاس فيه القيمة بما يُنتَج ويُستهلك، تصبح الرحمة موقفًا فلسفيًا متمردًا، وتصبح الإنسانية طريقًا شاقًا يحتاج شجاعة داخلية. أن تظلّ رحيمًا في عالم قاسٍ، هو تمرين يومي على مقاومة التحجّر. أن تظل إنسانيًا في زمن اللامبالاة، هو اختيارٌ واعٍ للانحياز إلى ما هو أسمى من الغرائز.
وفي النهاية، لسنا مطالبين أن نُغيّر العالم كله، لكننا مُلزمون ألا نُضيف إليه مزيدًا من القسوة. أن نكون بشريين بحق، يعني أن نُضيء شمعة صغيرة وسط عتمة كثيفة، وأن نؤمن بأن تلك الشمعة، مهما بدت ضئيلة، قد تكون الخيط الأخير الذي يربط العالم بأخلاقه.
2 تعليقات
سلمت يمينك
ردحذف♥♥♥
ردحذف